ليس من باب المبالغة او
الاعجاب المفرط ان تطلق رابطة ادباء المغرب على الراحل احمد المجاطي، لقب «شاعر المغرب» وإن كان الذوق الادبي
الحديث لم يعد يقبل مثل هذه الصفات والنعوت التي كانت في الماضي تعبر عن تعصب فئة
او تفضيل طائفة من النقاد، لشاعر ما، مؤثرة اياه على سائر نظرائه، وحتى امير
الشعراء احمد شوقي الذي بويع ديمقراطيا في حفل كبير بالقاهرة، لم يسلم من التشكيك
في جدارته بلقب لا يمت الى الابداع بصلة.
ظل احمد المجاطي (1936 ـ 1995) شاعر الندرة طوال حياته الحافلة بالمكابدات الذاتية، مقاوما
اغراءات الاكثار من الانتاج، رافضا ان يكون لسان الغير على مستوى القاموس اللغوي
والايقاع والصور والاخيلة، أو الانتساب لمدرسة شعرية معينة، لذلك تعددت المؤثرات
والظلال في شعره ونجح في اخفائها في تلابيب لغته الصافية البلورية وخبايا ذاته
الملتهبة ووجدانه المنكسر جراء الاخفاقات، فأعانه كل ذلك على كتابة «القصيدة الفريدة الغراء»، وجاء
تجديده غير مسبوق، واضافة النوعية الى القصيدة المغربية الحديثة، ماثلة في كل
نماذجه، وهي سمات يقر بها من حاولوا السير على منواله او اتخذوا لهم نهجهم الخاص.
توفي أحمد المجاطي سنة 1995م بعد سنوات زاهرة بالعطاء التربوي
والبيداغوجي ،ومزدانة بالعمل والاجتهاد والإبداع والكتابة والنقد.
ب-
بنية كتاب “ظاهرة الشعر الحديث”:
يحتوي
كتاب قسمين رئيسيين: القسم الأول بعنوان: نحو مضمون ذاتي، والقسم الذاتي بعنوان: نحو شكل جديد. أما عدد الفصول فهي أربعة، وهي:
الفصل
الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث؛
الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع؛
الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت؛
الفصل الرابع: الشكل الجديد.
ويعد هذا أن الكتاب توليفة بين أطروحاته الواردة في رسالته الجامعية وأطروحته التي أعدها لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث.
الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع؛
الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت؛
الفصل الرابع: الشكل الجديد.
ويعد هذا أن الكتاب توليفة بين أطروحاته الواردة في رسالته الجامعية وأطروحته التي أعدها لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث.
غاية التأليف:
محمد بنيس سبق له أن نشر
في كتابه "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" حوارا أجراه مع الشاعر، ومما
ورد فيه قول المجاطي :" علاقتي بالشعر تعود إلى سنوات 1956، عندما
كنت طالبا بالثانوية، كانت معظم قصائدي ذات مناخ تقليدي (القافية-العروض)، كنت
أحاول في هذه المرحلة المتقدمة من تجربتي الشعرية أن أجس نبض القضايا المطروحة في
فترة ما قبل الاستقلال. نشرت أول قصائدي في جريدة العلم..ولا يحضرني عنوانها الآن.
محاولة الحلم واستشراف رؤى بديلة جعلتني أتوقف عن كتابة الشعر لمدة أربع سنوات 1957-1961. لماذا
هذا التوقف مع وقف التنفيذ ؟
تعريف بالكتاب
ظاهرة الشعر الحديث " دراسة
نقدية تتبع مسار تطور الشعر العربي الحديث ،والبحث في العوامل التي جعلت الشاعر
ينتقل من مرحلة الإحياء والذات إلى مرحلة التحرر من قيود التقليد ، مع رصد العوامل
والتجارب التي غذت التجديد في الشعر العربي: على
مستوى المضمون من خلال
تجربة الغربة والضياع ،وتجربة الموت ،مع ما تتميز به كل تجربة من مظاهر
وخصوصيات .وعلى
مستوى الشكل والبناء
الفني : اللغة والسياق وآليات التعبير وخاصة
الصورة الشعرية والأسس الموسيقية.
القسم الأول: نحــــو مضمــــون ذاتـــــي.
الفصل
الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث
الشعر
العربي القديم:
يخضع التطور في الشعر العربي – حسب أحمد
المعداوي- إلى أمرين مهمين، وهما: الحرية والاحتكاك بالثقافة الأجنبية. ولم
يتحقق هذا التطور في الشعر القديم إلا جزئيا في العصر العباسي
ومن هنا، يتبين لنا أن الشعر العربي القديم،
لم يحقق تطورا ملحوظا بسبب انعدام الحرية الإبداعية وقلة الاحتكاك بالآداب
الأجنبية؛ مما جعل الثبات أوالمحافظة على الأصول هو المهيمن على الشعر العربي
القديم ونقده بالقياس مع خاصة التجديد و التحول والتطور.
التيـــــار الإحيـــــائي:
يستند
التيار الإحيائي في شعرنا العربي الحديث
على محاكاة الأقدمين وبعث التراث الشعري القديم
ومن
ثم، فقد كانت العودة إلى التراث الشعري أهم مرتكز يقوم عليه هذا التيار، غير ان
مايأخده عليه المجاطي هذا التيار انه أهمل التعبير عن الذات ورصد الواقع، ولم يحقق
تطورا بسبب انعدام الحرية الإبداعية و انعدام التأثر الحقيقي بالثقافة
الأجنبية.
القصائد
الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة لا طبيعة التجربة
التيــــار الــــذاتي:
جماعـــة الديــــوان:
ويتسم
الشعر الذاتي عند جماعة الديوان بالتميز والتفرد والتغني بشعر الشخصية. ويعود
الاهتمام بالذاتية عند شعراء هذه المدرسة لسببين يتمثلان أولا: في إعادة الاعتبار
للذات المصرية، وثانيا: انتشار الفكر الحر بين المثقفين والمبدعين المصريين.
أصحابها
يربطون الشعر بالذات والوجدان مع اختلافات طفيف في ما بينهم مما اتمر اختلافا بينا
في المضامين الشعرية لهؤلاء الشعراء.
فالشعر
العقاد العقاد
يرجح كفة ماهو فكري وعقلي على ماهو وجداني شعوري
حيت يغلب المنطق العقلي على الجانب الداخلي ويظهر دلك
في قصيدته الشعرية “الحبيب التالث” وهذا
ماجعل كتر من دارسين كصلاح عبد الصبور يعتبر العقاد مفكرا قبل أن يكون شاعرا.
وعلى
عكس دلك يجد المجاطي ان عبد الرحمن شكري يستمد طاقته الشعرية من نفسه الكسيرة
فقد تأمل في أعماق الذات تأملا يتجاوز في غايته حدود الاستجابة للواقع، لان
المعاني عنده جزء من النفس لا يدركها العقل وانما تدرك بلقلب
اما
الشاعرعبد القادر المازني فشعره يقوم على
الشعور والعواطف والاحساسات وخاصة الإحساس بالألم. ولعل” في هذا الاطمئنان إلى
الألم، فالمازمي كره الحياة نتيجة ان الحياة لم تريه من وجهها الا الجانب الكالح
الاسود وان اعتاد عليه.
وعلى
الرغم من ذلك، فهذا التيار حسب أحمد المعداوي تيار شعري سلبي ؛ لأنه بقي أسير الذات ولم يتجاوزها إلى تغيير الواقع:”و إذا كانت هذه تجربة قد مكنت من اعادة الاعتبار لشخصية
الفرد المصري كانت تعاني من انهيار تام على مختلف المستويات، وأتاح لهم ذلك أن
يعبروا عن أنفسهم بوصفها قيما إنسانية لها وزنها، فإت دلك لم يتح لهم أن يذهبوا
برسالتهم الشعرية
إلى أبعد من ذلك، فيرتفعوا إلى مستوى التأهب لخوض المعركة، بغية
تغيير تلك الظروف
التي منعت المجتمع العربي من التحول وبناء الغد الأفضل، وهذا هو السر في أن أثر
الوجدان في شعر هذه الجماعة كان أثرا سلبيا، يؤثر هدوء الحزن وظلمة التشاؤم على
ابتسامة الأمل واستشراف النصر، فحفر بذلك أول قناة مظلمة في طريق الاتجاه
الرومانسي الذي أعقب هذا التيار وورث معظم خصائصه التجديدية”.
وبعد
أن قوّم أحمد المعداوي الشعر الإحيائي وشعر جماعة الديوان تقويما سلبيا يسبب
انتقاده للذاكرة التراثية و الذاتية المثالية الباكية، انتقل إلى تقويم أدب المهجر
الشمالي دون الجنوبي الذي كان يحف شعراؤه حول العصبة الأندلسية.
تيار
الرابطة القلمية:
مفهوم
الوجدان عند شعراء الرابطة القلمية ( جبران
خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي)، اختلط بالذات والهجرة والغربة والوحدة.
ومن
المعروف أن شعر الرابطة القلمية قد عايش المد القومي، ثم تأثر تأثرا كبيرا بالآداب
الأجنبية، إلا أنه ماينتقده المجاطي فيه هو كونه ظل حبيس الذات والمضامين السلبية كاليأس والألم والخنوع والقناعة والاستسلام . بيد أن هذه المضامين بعيدة عن حقيقة الوعي القومي الذي
يستلزم الأفعال الإيجابية والتغيير الثوري والممارسة العملية وترجمة المشاعر إلى
الواقع الفعلي.
يقول
جبران:
والذي
نعشقه يأس قضى والذي نطلبه ولى وراح
جماعــــة أپــــولو:
هي
جماعة شعرية تأسست سنة 1932م مع الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وترتكز على التغني
بالذات والوجدان، مع بعض المواضيع القومية الممزوجة بالهموم الذاتية ولواعج
المتقدة وصراع التراجيدي مع الحياة من شدة اليأس والألم.
وتمتاز
معاني شعراء أپولو حسب أحمد المعداوي بالسلبية بسبب
تعاطي شعراء الجماعة مع مواضيع
الطبيعة والهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة، ،مع
احساس متوقض بالحرمان والخيبة واليأس والمرارة ،
والمعاناة من الاغتراب الذاتي والمكاني والفرار من المدينة الى العزلة حابسين
مواهبهم في دائرة التجربة الذاتية الضيقة كأحمد زكي أبو شادي الذي سبقه إلى ذلك”
ناجي إلى ماوراء الغمام، وسبقه علي محمود طه إلى ماوراء البحار مع الملاح التائه،
وسبقه محمود أبو الوفا إلى معاناة أنفاس محترقة
فتشابهت
التجارب، وكثر الاجترار، وقلت فرص الجدة والطرافة، حتى صح فيهم قول الناقد محمد
النويهي:” قد أغرقوا في شعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار
معظم حلاوته، وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض”
لكن
هل بالفعل تقوقعت هذه التجربة الشعرية حول الذات كما يرى المجاطي ام أن المجاطي
تناسى بعض القصائد الواقعية والقومية والوطنية التي دبجها شعراء أپولو في استنهاض
همم الشعب كما فعل أبو القاسم الشابي في قصيدته الرائعة ” إرادة الحياة” التي
مازال الشعب التونسي يتغنى بها إلى يومنا هذا، واتخذت القصيدة نشيدا وطنيا لتونس
لكن أحمد المعداوي يجيبنا بجواب يريد من
خلاله أن يمهد لشعر الحداثة الذي كان في رأيه شعرا إيجابيا مرتبطا بالحياة والواقع”
نحن لاننكر أن هذه الجماعة شأنها في ذلك كشأن جماعة الديوان وتيار الواقعية وتيار
الرابطة القلمية فقد خلفت شعرا يتناول القضايا القومية والقضايا الاجتماعية بصفة
عامة، ولكننا نرى أن ما يمكن أن يعتد به من شعرهم
هو الشعر الوجداني الصرف، أما الشعر الواقعي الاجتماعي، والشعر
الواقعي القومي الذي يأخذ الشاعر فيه نفسه بنوع من الفهم العلمي والموضوعي للظروف
الاجتماعية والسياسية، فقد قام على أنقاض هذا التيار الذاتي الذي أغرق في الانطواء
على هموم الذات الفردية إغراقا تحول في نهاية الأمر إلى مايشبه المرض. نعم لقد انحصر تيار العودة إلى الذات بعد أن
استنفد إمكانياته الموضوعية، وتدفق مكانه تيار آخر لم ينكر أهمية الذات إنكار ا
تاما، بل أراد لهذه الذات أن تفتح نفسها على ماحولها، وأن تقيم وجدان الجماعة مكان
وجدان الفرد، ذلك أن المرحلة كانت تتطلب هذا النوع من التآزر بين الفرد والجماعة،
وتنفر كل النفور من أية دعوة إلى الانطواء والتفرد والعزلة”.
وهكذا، استطاع أحمد المعداوي أن يتخلص من
جماعة أپولو كما تخلص سابقا من جماعة الديوان والرابطة القلمية بطريقة من أجل أن
يعطي الصدارة والمشروعية للشعر الحديث باعتباره شعر الثورة والتغيير والممارسة
الفعلية.
نلاحظ أن أحمد المعداوي يعمم أحكامه ويسحبها
على الظاهرة بأكملها، فعندما يتعامل مع الشعر الرومانسي يعتبره شعرا سلبيا يرتكن
إلى الضعف والاستسلام والنكوص والانكماش، بينما نحن نعلم جيدا أن هذا الشعر جمع
بين الذاتية والقضايا الوطنية ( قصيدة
إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي)،
والقومية ( نسر لعمر أبي ريشة). ويعني هذا أن ليس كل ما لدى الرومانسيين
سلبي، فقد جمعوا بين التعبير عن الهموم الذاتية الفردية بسبب تردي الواقع الذي كان
يعيشون فيه، والهموم الثورية من خلال حث الشعوب على الثورة والانتفاض ضد الاستعمار،
وديوان أبي القاسم الشابي “أغاني الحياة” و” ديوان الحرية “لعبد الكريم بن ثابت
خير دليل على ما نقول
القسم الثاني: نحـــو شكــــل جديــــد
على
رغم من كون القصائد الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة لا طبيعة التجربة ، من
خلال ميلها إلى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وبداوة المعجم. بينما اقترنت الصورة
الشعرية لدى الإحيائيين بالذاكرة التراثية وغالبا ما تأتي للتزيين والزخرفة ليس
إلا
الا
إن التيار الوجداني جاء بنمط جديد يعتمد على استخدم لغة أكثر سهولة ويسرا. بل تستعمل القصيدة
الوجدانية لغة الحديث المألوف ولغة الشارع كما عند العقاد في الكثير من قصائده الشعرية
ولاسيما قصيدته” أصداء الشارع” الموجودة في ديوانه” عابر سبيل”. كما أن الصورة الشعرية البيانية صارت
تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي ،ومن رؤيته
للحياة، ، ولم يعد التدبيج والزخرفة هدفه الأساسي من استخدامهاكما شملت قصائد
الوجدانين على وحدة كقصيدة “حكمة الجهل” لعباس محمود العقاد التي يحافظ فيها
الشاعر على الرابط العضوي والمنطقي، لذا من الصعب أن يخل الدارس بتسلسل الأبيات
تقديما وتأخيرا.
وتبقى
هذه الوحدة العضوية موجودة ومرتبطة بالوجدان مهما اختلفت القوافي كما في قصيدة
“الخير والشر” لميخائيل نعيمة أو تعددت الأوزان العروضية كما في قصيدة”المجنون”
لإيليا أبي ماضي.
هذا،
وقد مال الوجدانيون إلى تحقيق بعض الملامح التجديدية في أشعارهم كتنويع القوافي
والأوزان، وتشغيل الوحدة العضوية في بناء القصيدة، واستعمال القصائد والمقطوعات
المتفرقة، وتليين اللغة وترهيفها وإزالة قداستها البيانية ،
وإذا۫، فقد” كانت نهاية التيارات الذاتية محزنة،
على صعيدي المضمون والشكل، أما المضمون فلأنه انحدر، كما لاحظنا في القسم الأول من
هذا الكتاب، على مستوى البكاء والأنين والتفجع والشكوى، وهي معان ممعنة في الضعف
تفصح بوضوح عما وراءها من مرض وتهافت وخذلان.
أما الشكل فلأنه فشل في مسيرته نحو الوصول إلى
صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة، ومميزات مكتملة ناضجة، تعبر عن وضع الانسان العربي
وتحوال تأليب مشاعره ضد الوضع السياسي والاجتماعي
وهكذا،
يحكم أحمد المعداوي على التيار الذاتي بأنه لم يأت بجديد يذكر على مستوى المضمون
والشكل معا على الرغم من بعض المحاولات التجديدية ؛ لأنه بقي أسير النغمات الحزينة
والمحاولات التجديدية المحتشمة التي كانت تهاب أنياب النقد العربي المحافظ.
الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع
كان لهزيمة الجيوش العربية سنة 1948وماعاقبها
من نكسات وهزائم متوالية وخاصة هزيمة 1967م. وانهيار الواقع العربي الفظ الذي زرع الشك
في نفوس المثقفين والمبدعين، وأسقط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت
المقدسة فرصة لظهورشعر التفعلة حيت ادرك الشاعر العربي الا سبيل الى لخروج من
الواقع المتأزم الا بلاحتكاك بالثقافة الأجنبية و انفتاح الشعر على كل ماهو مستحدث في الخارج لتجديد آليات
الكتابة والتعبير وبدأ التسلح بمجموعة من المعارف والعلوم للسمو بهذا الشعر
كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، واستيعاب
الروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من
الديانات الهندية والفارسية والحرانية(الصابئة)، والتأثر بأشعار الجامي وجلال الدين الرومي
وفريد العطار والخيام وطاغور فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة
الاشتراكية والتفاعل مع أشعار أودن وبابلو نيرودا و وپول إيلوار و لويس أراگون و
گارسيا لوركا وماياكوفسكي.
وصار الشعر وسيلة لاكتشاف الإنسان والعالم،
كما كان فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى، وبدأ الشاعر
يحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون والوجود والقيم والمعرفة. بل أصبح الشعر الحديث
أداة لتفسير العالم وتغييره.
ولا يعرف الشاعر الحديث معنى الاستقرار فهو
كثير التنقل تناصيا وكثير الترحال معرفيا،ولا تقف رحلة الشاعر الحديث عند حدود
الزمان والمكان والتاريخ والحضارة، فقد حمل صليبه مع المسيح، وحمل صخرته مع سيزيف،
وعاقر الأتراح والآلام مع كلكمش في رحلته الطويلة بحثا عن شجرة الخلود، ومع الحلاج
في مأساته بين البوح والكتمان، ورهن المحبسين مع أبي العلاء، قرأ اسمه على شاهد
قبره، وقرأه على الآجر المشوي في أطلال نينوى، وعلى الصوامع
المهدمة في أحياء نيسابور، حتى إذا أعياه الضرب في الأرض، ألقى عصاه في انتظار
الذي يأتي ولا يأتي”.
ومن ناحية أخرى، أصبح الشكل الشعري الجديد
يعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة، بعد أن أفرزته مجموعة من النكبات والنكسات
والهزائم. ومن هنا، فقد استوى الشكل الشعري الجديد مع مجموعة من الشعراء المحدثين
كبدر
شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب
البياتي…
ومن
الموضوعات التي نصادفها بكثرة في شعرنا العربي الحديث نلفي تجربة الضياع والتمزق
النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية وكل هذا جعل
الشاعر الحديث يعاني من الملل والسأم والضجر واللامبالاة والقلق، وبدأ يعزف أنغاما
حزينة تترجم سيمفونية الضياع والتيه والاغتراب والانهيار النفسي والتآكل الذاتي
والذوبان الوجودي بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع العربي بسبب قيمه
الزائفة وهزائمه المتكررة.
وتحضر
هذه النغمة التراجيدية في أشعار أدونيس في قصيدة “الرأس والنهر ” من ديوان ”
المسرح والمرايا”، وعند عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور في قصيدته “مذكرات
الصوفي بشر الحافي” من ديوان “أحلام الفارس القديم”، و لدى عبد المعطي حجازي.
وتتنوع
الغربة في أشعار المحدثين لتشمل الغربة في الكون، والغربة في المدينة، والغربة في
الحب، والغربة في الكلمة.
وتعني
الغربة في الكون ميل الشاعر إلى الشك في الحقائق والميل إلى
التفلسف الأنطولوجي (
الوجودي)، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، والدافع إلى ذلك
أن الشاعر يحس بالعبث والقلق والمرارة المظلمة كما نجد ذلك في نصوص صلاح عبد
الصبور وبدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال.
مسافر
تركت وجهي على زجاج قنديلي
خريطتي
ارض بلا خالق، والرفض انجيلي
أما الغربة في المدينة، فتتجلى في تبرم الشاعر الحساس من المكان المديني الذي حول
الإنسان إلى مادة محنطة بالقيم المصطنعة الزائفة، وهذا المكان المخيف هو المدينة العربية
المعاصرة التي غلبت الإنسان وشيأته، وأضحت بدون قلب أو بدون روح، متل القاهرة عند
المعطي حجازي، ونفس الشيء يقال عن بغداد السياب
ويلاحظ أن الشعراء المحدثين لم يستطيعوا
الهروب إلى الريف أو إلى عالم الغاب كما فعل الرومانسيون ، بل فكر السياب أن يهرب
إلى قريته جيكور في الكثير من جيكورياته، ولكنه وجد أن المدينة تحاصره في أي مكان
وتطوقه بأحابيلها المادية الإسمنتية، ولم يجد صلاح عبد الصبور أيضا سوى أن يجسد
الخلاص في الموت كما في قصيدة “الخروج”.
الغربة في الحب وإذا كان الشاعر الحديث قد فشل في فهم أسرار
الكون ووجوده، وفشل كذلك في التأقلم مع المدينة، فإنه فشل كذلك في الحب الذي أصبح
زيفا مصطنعا وبريقا واهما. ومن ثم، تتحول العلاقة بين الزوجين إلى عداوة وقتال كما
في قصيدة”الجروح السود” عند خليل حاوي في ديوانه” نهر الرماد”، أو يموت الحب عند
عبد المعطي حجازي أو يصاب بالاختناق عند صلاح عبد الصبور.
ويلاحظ أن هناك من الشعراء المحدثين من وقف
عند لون واحد من الغربة، وهناك من مزج بين لونين ، وهناك من تحدث عن الألوان
الثلاثة للغربة، وهناك من جمع بين الأربعة في وحدة شعرية منصهرة ، كما هو الشأن في
قصيدة” فارس النحاس” لعبد الوهاب البياتي” ، التي جسدت الغربة في المكان والغربة
في الزمان والغربة في المدينة والغربة في العجز. وهذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموت
والغربة في الصمت. وهذه النظرة الشمولية للغربة تنطبق أيضا على قصيدة يوسف الخال”
الدارة السوداء”.
وسبب هذا الضياع عند الشعراء المحدثين هو
تأثرهم بالأدب الوجودي كما عند سارتر وألبير كامو، ومن الشعراء الذين تغنوا بالسأم
الوجودي والقلق والاغتراب والضياع نستحضر كلا من صلاح عبد الصبور في قصيدة “الظل
والصليب ” من ديوان” أقول لكم” ، وكما حصل في بعض قصائد عبد الباسط الصوفي من
ديوانه” أبيات ريفية” كقصيدة” قصيدة ومقهى”، وقصيدة” أحزان قديمة”، وقصيدة ”
تثاؤب”.
وقد دفع هذا اليأس وهذا الضياع عند الشعراء
المحدثين بعض
النقاد( حسين مروة، وجلال العشري، ومحمود أمين العالم، وفاروق خورشيد) إلى اتهام هذا
الشعر الجديد بالسلبية والنكوص والضعف والاستسلام والميل إلى الذاتية الباكية على
غرار الرومانسيين الوجدانيين. بيد أن أحمد المجاطي يدافع عن هذه التجربة
، من جانب معين فإذا كانت تجربة شعراء التيارات الذاتية قد اغرقت، في
الظلمة والقتامة، واليأس الذاتية، فان الشاعر الحديث قد تناول هم جماعي نابع من تفتت الأرض تحت
أقدامنا، نابع من قصر عصر الأفراح، التي تبزغ في
سمائنا بين الحين والحين،. إن هذه الغربة هي غربتنا، وكل صوت نرفعه في وجه الشعر
حين يشير إليها يجب أن يتحول إلى فعل، وأن يكون هدف ذلك الفعل، الواقع العربي،
لامكان للحسرة في نفوسنا وكلماتنا.يقول المجاطي لا أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن تجربة الغربة،
ولكن هدفي هو لفت النظر إليها، وعلى الدور الذي لعبته في تهييء الشاعر الحديث
لتجربة أخرى… وهي تجربة الحياة والموت”.
ومع دلك سيعتبر احمد المعداوي تجربة الغربة
والضياع تجربة سلبية فاشلة وجدت نفسها في طريق مسدود
وما ذهب إليه أحمد المعداوي في حق شعر
الذاتيين يمكن أن ينطبق أيضا على شعر الشعراء المحدثين الذين تغنوا بالغربة
والضياع فهؤلاء حسب النقاد الاشتراكيين سلبيين يذرفون بكاء الندب والهزيمة، وكان
من باب أولى أن يكونوا ثوريين وأن ينزلوا إلى واقع الممارسة لمشاركة القراء في
همومهم وآلامهم من أجل تغيير العالم بدلا من تفسيره والبكاء عليه.
الفصل الثالث: تجربـــة الحيـــاة والمـــوت
بعد حديت المجاطي عن تجربة الغربة والضياع
والتي اعترها نوع من ايقاع اليأس الذي يسود حركة الواقع والمرتبط بواقع الدمار
الذي خلفته النكبة واثمرة عن تجربة الغربة فقد وصل بعضها ليثمر تجربة جديدة هي
تجربة الحياة والموت، المشدودة الى
المستقبل فهناك أشعار تغنت بالأمل والحياة واليقظة والتجدد والانبعاث وبهذا تكون مهمة الشاعر تحويل احساسانا بالموت
الى احساس بالحياة التي نجدها حاضرة في أشعار بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس
وعبد الوهاب البياتي.
وسبب
هذا الأمل والتجدد في أشعار هؤلاء الذين تغنوا بالموت والانبعاث هو ماتم إنجازه
واقعيا وسياسيا كثورة مصر و تأميم القناة ورد العدوان الثلاثي واستقلال أقطار
العالم العربي والوحدة بين مصر وسوريا إلى غير ذلك من الأحداث الإيجابية التي دفعت
الشعراء إلى التغني بالانبعاث واليقظة والتجدد الحضاري. ولم تستقل حقبة الأمل
بفترة معينة، بل نراها تتداخل مع فترة إيقاع الغربة والضياع تعاقبا أو تقاطعا.
وادا كان التجدد عند شعراء المهجر مقترن
بالتناسخ تملئها الحيرة والتردد وايثار الحياة الحالمة كأقصوصة ” رماد الأجيال”
و”النار الخالدة” عند جبران خايل جبران،، فان التجدد عند الشعراء
المحدثين مرتبط بالفداء المسيحي والشاعر بدلك اقرب مايكون الى البطل العارف
باسرارها الكلمة القادر على سكب اكسيرها المقدس في قلوب والناس وضمائرهم فتكون
اليقضة ويكون البعث وتكون الحياة بعد الموت. مستلهما من الأساطير والرموز البابلية
واليونانية والفينيقية والعربية. تموز وعشتار، ما يوحي الى قيم الخير والشر بمعنى الحياة والموت،
ولقد أفرزت هذه الأساطير الرمزية التي وظفها
الشاعر المعاصر منهجا نقديا وأدبيا وفلسفيا يسمى بالمنهج الأسطوري” يقدم به الشاعر
مشاعره وأفكاره، ومجمل تجربته في صور رمزية، يتم بواسطتها التواصل، لا عن طريق
مخاطبة الفكر، كما تفعل الفلسفة والمنطق، بل عن طريق التغلغل إلى اللاشعور، حيث
تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة”.
وقد
عمل المجاطي على تسليط الضوء على اربعة شعراء وهم اودونيس وخليل حاوي وبدر شاكر
السياب وعبد الوهاب البياتي.
علي احمد سعيد أدونيس :
هو واحد من الذين تغنوا بالموت والانبعاث كما
في ديوانيه” كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل”، وديوان” المسرح
والمرايا”. من خصائص شعره انه يسير في اتجاهين متكاملين او يسير في اتجاه الحيرة
والبحت عن وسيلة البعث وتاني يحاول ان يكتشف مفهوم التحول الدي يعبر عنه اودونيس
ويشخصه في أشعاره من خلال جدلية الإنسان المتأرجحة بين الحياة والموت، كما في
قصائده الشعرية ” الرأس والنهر”، و” تيمور ومهيار”،.
فمهيار في القصيدة هو رمز الشعب اما تيمور فهو رمز المستعبد
والفهر والموت
فتيمور في القصيدة في البداية يؤخد الى السجن
حيت توضع اسطوانة من الحجر على ظهره لكنه يعود في الفقرة تانية من القصيدة الى ظهور ليفاجئ تيمور ويقول
الم تكن في سجن ؟كيف خرجت؟
هدمته؟ انسللت من الشقوق
فيجيب مهيار
اخرجني سلطان
كشمس لا يموت
كالانسان
فتحول هي اليقضة بعد الموت متحديا الموت ص124 ان
رغبة الشاعر تبدو واضحة في تجاوز الواقع العربي المنهار غير ان المبررات الفكرية
في قصائد ادونيس نحو البعث تضل حالمة بعيدة حركة التاريخ العربي متمسكا بالمنهج
الأسطوري وهو أمر تجاوزه باقي الشعراء مثل
الشاعر خليل حاوي الذي رفض مبدأ
التحول وركز على مبدأ المعانات فقد عبر في دواوينه الثلاثة ” نهر الرماد”
و”الناي والريح ” و” بيادر الجوع” عن مبدإ آخر غير مبدإ التحول عند أدونيس هو مبدأ
المعاناة، أي معاناة حقيقية للخراب والدمار، والجفاف والعقم. وقد شغّل في شعره
أسطورة تموز وأسطورة العنقاء للدلالة على هذا الخراب الحضاري والتجدد مع العنقاء.
اما بدر
شاكر السياب فيعتقد بأن الخلاص لايكون إلا بالموت، بمزيد من الضحايا
كما في قصيدته ” النهر والموت” ، وقد استخدم السياب رمزا أسطوريا للتعبير عن فكرة
الخلاص وهو رمز المسيح كما في قصيدته” المسيح بعد الصلب”، وقصيدة ” مدينة
السندباد” و”أنشودة المطر”.
وتتسم أشعار عبد الوهاب البياتي بجدلية
الأمل واليأس كما يظهر ذلك جليا في ديوانه” الذي يأتي
ولايأتي”.
هذا، و قد جسد عبد الوهاب البياتي في دواوينه
الشعرية حقيقة البعث من خلال الخطوط الأربعة الهامة لمضمون ديوانه” الذي يأتي
ولايأتي” كخط الحياة وخط الموت، وخط السؤال، وخط الرجاء، وكل هذا يرد في جدلية
منحنى الأمل ومنحنى الشك.
إن الصراع بين الموت والحياة في تجربة الشاعر
الحديث يعني في آخر الأمر الصراع بين الحرية والحب والتجدد الذي يجعل الثورة
وسيلته، وبين الحقد والاستعباد والنفي من المكان ومن التاريخ.”
وعلى الرغم من مضامين الشعر الحديث الثورية،
فإنه لم يتحول إلى طاقة تغييرية، بل نلاحظ انفصالا بين الشعر الحديث والجماهير
العربية، والسبب في ذلك يعود حسب أحمد المعداوي إلى عامل ديني قومي، وعامل ثقافي،
وعامل سياسي، ولكن أهم هذه العوامل حسب الكاتب تعود إلى العامل” المتعلق بتقنية
هذا الشعر، أي بالوسائل الفنية المستحدثة التي توسل بها الشعراء، للتعبير عن
التجارب التي سبقت الحديث عنها. فلا شك في أن حداثة هذه الوسائل حالت بين
الجماهير، وبين تمثل المضامين الثورية لهذا الشعر.”
الفصل الرابع: الشكـــــل الجديــــــد
استعمل الشعر الحديث شكلا جديدا يتجلى في
استخدام الرموز والأساطير والصور البيانية الانزياحية، كما أن اللغة تختلف من شاعر
إلى آخر، فالشعراء العراقيون الذين يمثلهم بدر شاكر السياب يستعملون لغة جزلة
وعبارة فخمة وسبكا متينا على غرار الشعر القديم الذي يتميز بالنفس التقليدي كما
يظهر ذلك جليا في دواوين السياب القديمة والمتأخرة وخاصة قصيدته “مدينة بلا مطر”،
وقصيدة” منزل الأقنان”، بينما هناك من يختار لغة الحديث اليومي كما عند أمل دنقل
في ديوانه” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، وهناك من يخلخل اللغة الشعرية النفعية
المباشرة ويستعمل لغة انزياحية موحية تنتهك معايير الوضوح والعقل والمنطق كما نجد
ذلك عند الشاعر أدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر وصلاح عبد الصبور، وهناك من يشغل
اللغة الدرامية المتوترة النابعة من الصوت الداخلي، وهذا الصوت” منبثق من أعماق
الذات، ومتجها إليها، خلافا لماهو الأمر عليه لدى الشاعر القديم، الذي امتاز سياقه
اللغوي بصدوره عن صوت داخلي يتجه إلى الخارج، وهو في اتجاهه إلى الخارج يأخذ شكل
خطاب أو التماس أو دعوة إلى المشاركة والتعاطف، الأمر الذي يمنعه من أن يقيم جدارا
بينه وبين العالم الخارجي أثناء المعاناة والتوتر، فهناك دائما شخص آخر يقاسم
الشاعر آلامه”27 ، كما نجد ذلك لدى الشاعر محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته ” معزوفة
لدرويش متجول”.
وعلى مستوى الصورة الشعرية، فقد تجاوز الشاعر
الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الإحيائيين، والصور
المرتبطة بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات
من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير وتوظيف الصورة
الرؤيا وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء. ولا ريب أن ولع” الشاعر
الحديث بالضرب في بحور المعرفة السبعة ، قد أتاح له أن يجتني المزيد من الصور
والرموز، التي تعتبر من أهم الوسائل التي يلجأ إليها الشاعر الحديث للتعبير عن
تجاربه الجديدة، ولا ريب في أن الشاعر حين فعل ذلك، وحين وسع مدلول صوره البيانية،
أو حدده بربطه بمدلولات سائر الصور في القصيدة الواحدة، أو حين فتح مدلول الصورة
الواحدة على آفاق تجربته المختلفة، قد ابتعد كثيرا عن مفهوم الصور البيانية في
البلاغة القديمة، وأن هذا البعد قد ساهم مساهمة فعالة في إبعاد تجاربه الشعرية عن
ذوق عامة الناس،كما منحهم نوعا من التبرير لوصف شعره بالغموض. “.
ولكن أهم خاصة شكلية يتسم به الشعر الحديث هو
تطور الأسس الموسيقية، وإن كان بعض الشعراء المحدثين مازالوا يستعملون الطريقة
التقليدية في كتابة قصائدهم كما هو حال البياتي في هذا المقطع المأخوذ من ديوانه”
الذي يأتي ولا يأتي”:
عديدة أسلاب هذا الليل في المغاره
جماجم الموتى، كتاب أصفر، قيثاره
نقش على الحائط، طير ميت، عباره
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجاره.
بيد أن هناك من الشعراء من نسف عروض الشعر
لينتقل إلى عروض القصيدة معتمدا على التفعيلة وتنويعها والتصرف في عددها حسب
انفعالات التجربة الشعرية وتوقفها. أي إن التجربة الشعرية الذاتية الداخلية هي
التي تستلزم الإيقاع الشعري والوقفة العروضية والنظمية والدلالية عند الشاعر
المعاصر.
هذا، وقد التجأ الشاعر الحديث إلى تنويع
البحور الشعرية داخل قصيدة واحدة، واستخدام البحور الصافية منها ، وتنويع القوافي
والتحرر من القافية الموحدة التي تمتاز بالرتابة والتكرار الممل، ناهيك عن تفتيت
وحدة البيت المستقل وتعويضه بالأسطر والجمل الشعرية التي تخضع للنسق الشعوري
والفكري.
وشغّل الشاعر الحديث ستة بحور شعرية كالهزج( مفاعيلن)، والرمل( فاعلاتن)، والمتقارب( فعولن)، والمتدارك ( فاعلن)،
والرجز( مستفعلن)، والكامل(متفاعلن)، ولقد أصبح ” في وسع
الشاعر أن يستخلص من البحر الواحد عددا هائلا من الأبنية الموسيقية، التي ربما
أغنته عن التفكير في الانصراف من البحر ذي التفعيلة الواحدة إلى غيره. ولقد فطن
الشاعر الحديث إلى هذه الخاصة منذ السنوات الأولى لاكتشاف الشكل الجديد، فقد لاحظ
الدكتور إحسان عباس في كتابه” عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث” الصادر
سنة 1955م، أن” في ديوان ” أباريق مهشمة” إحدى وأربعين قصيدة، منها
ثمان وعشرون تستمد نغماتها من البحر الكامل، ومنها ست على بحر الرمل”
ومن سمات التجربة الجديدة الخلط بين البحور
داخل قصيدة واحدة كما عند السياب في قصيدتين من قصائد ديوان” شناشيل ابنة الجلبي”،
وأدونيس في قصيدته” مرآة لخالدة” من ديوان” المسرح والمرايا”.
ومن ” النصفة تقتضي منا – يقول أحمد
المعداوي- أن نشير إلى أن الطاقات الموسيقية للبحور المختلطة، بالرغم من أهميتها،
لم تستغل على النحو الذي رأيناه عند أدونيس إلا نادرا”.
ومن الظواهر التي تم توظيفها في الشعر الحديث
التنويع في الزحافات ، وتنويع الأضرب، واستعمال صيغة فاعل في بحر الخبب ، والاتكاء
على التدوير والتضمين، وتنويع القوافي حسب النسق الشعوري والفكري مع استخدامها
بشكل متراوح أو متعانق أو متراكب أو موحد أو متقاطع أو متراوح.
ويرى أحمد المعداوي في آخر الكتاب أن الحداثة
من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض، إلى جانب ما تتطلبه
القصيدة الحديثة من إعمال للجهد واستلزام لذوق قرائي جديد، ثم انفصال هذا الشعر عن
الجماهير مادام لا ينزل معها إلى ساحة المقاتلة والنضال والصراع ضد قوى الاستغلال
والبطش ولا يشاركها في معاركها الحضارية.
خاتمة
يتضح لنا، مما سبق، بأن كتاب ” ظاهرة الشعر
الحديث” لأحمد المعداوي كتاب يدافع عن الشعر المعاصر أو الشعر الحديث من خلال
مقاربات متداخلة تتكئ على التاريخ والتحليل الفني وملامسة القضايا الواقعية
وتجريبية
وعلى الرغم من قيمة هذا الكتاب من الناحية
العلمية والمعرفية والأدبية والتاريخية والنقدية، إلا أنه قد سقط في أحكام تعميمية
وخضع لمقاييس ذاتية انطباعية تحت دوافع إيديولوجية ذاتية وشخصية ، والدليل على ذلك
تراجع الباحث عن أحكامه النقدية في كتابه” أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث”
الذي قوض كل النتائج التي توصل إليها الكاتب في كتابه السابق” ظاهرة الشعر
الحديث”.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire