العنف
2- تحضير جماعي
تقديم المفهوم:
يبدو أن مظاهر العنف كثيرة، فهو يمارس بأشكال
متنوعة. هناك العنف الفزيائي من ذلك مثلا القتل و الاغتيال، لكن هناك العنف
السيكولوجي أو الأخلاقي، مثل التعذيب عن طريق العزل. كما يوجد العنف الاقتصادي من
خلال استغلال الطبقات أو البلدان الضعيفة. مثلما، أن هناك عنف الأنظمة
التوتاليتارية ذو الأهداف السياسية و عنف العنصرية... إلخ و اللائحة طويلة إلى
درجة تدفع إلى إثارة السؤال عما إذا كان هذا التعدد في صور العنف و أشكاله يعبر عن
واقع ثابت أم أن استعمال مفهوم وحيد لا يعكس الإختلافات بين مظاهره ليس من الناحية
الكمية فحسب. و إنما أيضا الجوهرية. إنه يوجد في كل مكان. و يمكن استعماله كموضوع
للبروباغندا و إلا كعنصر من عناصر تاكتيك للوصول إلى السلطة و المحافظة عليها. إذا
أدى العنف إلى تدمير الوجود برمته أو جزء منه، فإن العنف المنجز قد يكون أداة في
خدمة مشروع يمكن ألا يكون عقلانيا، لكن شروط استعماله تبدو قابلة للعقلنة.
يمكن
أن نسلم بصفة أولية أن العنف يوجد كلما كان هناك إلحاق للأذى بالغير بصفة جسدية أو
نفسية، سواء أخذنا الغير كفرد أم كجماعة أو مجموعة بشرية.
إذا
اعتبرنا هذا التعريف جيدا يجب أن نتصور العنف كواقعة تارخية و يتحدد بإعتباره كمحرك أو دينامو للتاريخ من
وجهة نظر معينة، و يقوم على استخدام القوة
بشكل غير مشروع لسبب من الأسباب. فكيف يمكن مراقبة العنف و التحكم فيه إذا كان يجب
أن نبدأ بقبول حضوره الجذري في الإنسان؟
لقد
أنتجت البشرية على مدى التاريخ آليات و وسائل للحد من العنف حيث يعتبر الدين و
الثقافة كعنصرين كابحين للعنف بشكل معنوي و أخلاقي، على أن أهم تقنية للتحكم في
العنف تتمثل في التنظيم السياسي للمجتمع ينبني فيه هذا الأخير في صورة مؤسسات
حديثة تجتث العنف و تجعل استخدامه حكرا على جهاز الدولة. و في هذا السياق تبرز
الديموقراطية كنظام يتطلع إلى القضاء على العنف و تدبير الخلافات و الصراعات
السياسية بكيفية حضارية تقوم على قوة القانون و ليس على قانون القوة: فإلى أي حد
نجحت الدولة الحديثة في القضاء على العنف؟ و هل من حق الفرد أو الجماعة ممارسة العنف
من أجل فرض ما يعتقد أنه حق و عدل و خير؟
المحور
الأول:
أشكال
العنف: ما طبيعة العنف؟
أفرز
التاريخ البشري أشكالا متعددة من العنف، يمكن أن نميز ضمنهما بين نوعين، هما:
العنف الجسدي و العنف الرمزي. كلاهما يمارس بطرق و وسائل متعددة تتطور باستمرار
بقدر تطور العلم و التقنية. و ليس بديهيا أن تكون هذه الأشكال دائما ظاهرة،
ذلك أن العنف يتحقق أيضا من خلال أشكال
متخفية مثلما هو الأمر في << نقص التغذية>> كما يشير إلى ذلك الفيلسوف
الفرنسي إيف ميشو. يرى هذا الأخير أن إنتاج وسائل العنف يشمل << وسائل
التسليح الفردي كما يشمل وسائل التخريب الجماعي>>.
و
بما أن هذه الوسائل أصبحت في متناول الكل: أفرادا، جماعات، دولا، فإن العنف يصير
أكثر فتكا. كما أنه أضحى أكثر اتصالا بالإعلام، على اعتبار أن هذا الأخير يسخره عن
طريق نشره أو السكوت عنه. و يخلص هذا الفيلسوف إلى أن << تطبيق التقدم
التقني و العلمي على استعمال العنف و على
كيفية تدبيره يمكننا من فهم.
أ-
الفعالية المضاعفة التي تم التوصل إليها فيما يخص أشكال التحطيم و التخريب .
فإبادة مجموعة بشرية ما. و إبادة مزروعات، و تهديد حياة الملايين من الناس تتطلب
وسائل و تنظيما لم يسبق له مثيل.
ب-
من حيث إن العنف أصبح قابلا للحساب و التحكم فإنه يمكن أن يحقق مردودية حيث أصبح
من الممكن فرض السيطرة بواسطة التعذيب و القمع و التهديد به>>. فهل معنى هذا
أن العنف هو ما يشكل ماهية الإنسان؟ هل الإنسان كائن عنيف بطبعه؟ هل يوجد العنف في
طبيعة الإنسان؟ هذا السؤال يطرح نفسه بالنظرإلى قدم الظاهرة و استمرارها عبر
التاريخ البشري، و هو يتعلق بما إذا كان الإنسان شغوفا بالتدمير؟ من يجيب الفيلسوف
و عالم الإجتماع و المحلل النفساني الألماني إيريك فروم عن هذا السؤال
بالقول:<< إن دراسة بعض الظواهر الإجتماعية و الطقوس الشعائرية القديمة قد
توحي بأن النزعة التدميرية لها جدورها النظرية في طبيعة الإنسان . إلا أن التحليل
المعمق لدلالات هذه الظاهرة ، يثبت أن كل الممارسات التي تؤدي إلى التدمير ليست
ناتجة بالضرورة عن < شغف بالتدمير> . بالتالي فإن التدمير ليس سلوكا ينتج بصفة
عملية عن غريزة تدميرية توجد في طبيعة الإنسان بقدر ما ينتج عن دوافع ونزعات ليس من الضروري أن تكون طبيعية
وذات علاقة بالممارسات والشعائر الطقوسية الدينية . يترتب عن ذلك أن الطبيعة
البشرية ليست هي التي تولد العنف وإنما هناك < طاقة تدميرية كامنة تغديها بعض
الظروف الخارجية والأحداث المفاجئة هي التي تدفع به إلى الظهور> .
وأما
المقصود بالعنف الرمزي فهو مختلف أشكال العنف غير الفيزيائي القائمة على الحاق
الأذى بالغير بواسطة الكلام أو اللغة أو التربية أو العنف الذهني ، وهو يقوم على
جعل المتلقي يتقبل هذا العنف <<اللطيف>> مثال ذلك العنف الرمزي الذي
تقوم به الإديولوجيا من حيث هو عنف لطيف وغير محسوس . يعرف عالم الإجتماع الفرنسي
المعاصر بيير بورديو هذا الشكل من العنف بالقول أنه هو ذلك الذي < يمارس على
فاعل اجتماعي ما بموافقته > وبلغة أخرى < فإن الفاعلين الإجتماعيين يعرفون
الإكراهات المسلطة عليهم وهم حتى في الحالات التي يكنون فيها خاضعين لحتميات
يساهمون في إنتاج المفعول الذي يمارس عليهم نوعا من التحديد و الإكراه> و
بالنظر إلى أن هذا العنف رمزي فإنه يمارس بوسائل رمزية، أي التواصل و تلقين
المعرفة.
المحور
الثاني:
العنف في التاريخ: كيف يتولد العنف في التاريخ البشري؟
يتحدد وجود كل مجتمع بشري – حسب ماركس- بوجود
صراع بين طبقتين اجتماعيتين، الأولى تمتلك وسائل الإنتاج و الأرض و الثانية لا
تمتلكها.
و
ذلك منذ أقدم المجتمعات البشرية و أكثرها بدائية إلى المجتمعات الرأسمالية المتطورة
. و هكذا ، فإن صراع الطبقات الإجتماعية يمكن أن يتخذ أشكالا فردية لا واعية عند
الأفراد أنفسهم، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح المعالم.
كتب
الفيلسوف الألماني كارل ماركس في هذا السياق السابق: <<نلاحظ أنه منذ العصور
التاريخية الأولى كان المجتمع في كل مكان مقسما إلى طبقات متمايزة ... ففي روما
القديمة كان هناك سادة و فرسان، وأقنان و عبيد، و في العصور الوسطى كان هناك سادة
و شرفاء، و سادة الحرف، و الحرفيون العاديون و أقنان، كما أن هناك داخل كل طبقة من
هذه الطبقات سلم تراتبي خاص>> و قد أصبح الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي
بين البرجوازية و البروليتاريا.
و
بالمقابل يرى المفكر الفرنسي روني جرار أن أساس العنف هو تنافس الرغبات ، و ذلك أن
الرغبات الإنسانية تخضع لقانون المحاكاة،أي كرغبات في ما يرغب به
الأخرون،<<كلما كانت رغبة الأخرين
(في شـيء ما) قوية و شديدة كانت رغبتي أنا أيضا قوية و شديدة (فيه). ينتج
عن ذلك احتمال اندلاع العنف.
وهكذا
فإن الصراع الإنساني يتولد عن صراع أو تنافس بين الرغبات. و إذا صح أن الرغبات
تتشكل و تتطور من خلال المحاكاة، فإن العنف سيكون معديا من خلال انتشاره في
الجماعة من فرد إلى أخر. و دواء هذا المرض المعدي هو القتل.
و هذا الطرح يرجع بنا إلى تصور الفيلسوف
الأنجليزي الحديث طوماس هوبز حول جذور العنف الذي يعتقد فيه أن مصدر هذا
الاخير ثلاثي، و يتمثل في: التنافس، الحذر
، الكبرياء، و هي أسباب توجد في الطبيعة الإنسانية. الأول يجعل الهجوم وسيلة
لتحقيق((المنفعة))، الثاني وسيلة ((للأمن)) و الثالث وسيلة لحماية ((السمعة)).
على
أن العنف له صلة أيضا بالتقديس و بالحقيقة، فهو يشكل إلى جانبهما << الأركان
الثلاثة لكل تراث مشكّل و مشكّل للكينونة الجماعية>> كما سماها المفكر
العربي محمد أركون الذي يشرح هذه العلاقة على نحو ما يلي:<< الجماعة مستعدة
دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف، و تقديس، و
إلى حقيقة لكي يعيش و لكي يجد له معنى على الأرض. العنف مرتبط بالتقديس و التقديس
مرتبط بالعنف و كلاهما مرتبطان بالحقيقة أو ما يعتقد أنه الحقيقة. و الحقيقة مقدسة
و تستحق بالنسبة لأصحابها، أن يسفك من أجلها دم >>.
المحور الثالث:
العنف و المشروعية: هل يمكن الإقرار بمشروعية العنف من زاوية الحق
و القانون و العدالة؟
يرى
عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، و أنها وحدها
تملك الحق و المشروعية في استعماله. من أين ينبع هذا الحق أو المشروعية؟ إنهما
يرتدان إلى التعاقد الإجتماعي الذي بموجبه يتنازل الشعب للدولة عن حق استعمال
العنف على أساس نظام سياسي حديث يتميز
بتقسيم السلط و مراقبتها لبعضها و بإجراء انتخبات بصورة منتظمة من أجل تشكيل هذه
السلطة. و بالتالي يصبح العنف مرتبطا بالدولة الديموقراطية الحديثة التي تضبط العنف و تحتكر استعماله. و يستشهد
م.فيبر في هذا الصدد بقولة تروتسكي : << الدولة هي كل جهاز(حكم) مؤسس على العنف>>
و هذه هي ميزة عصرنا الحالي، بحيث أنه لا يحق لأي كان استعمال العنف إلا عندما
تسمح الدولة بذلك . فهذه الأخيرة << تقوم على أساس استعمال العنف المشروع
>> و ستكون السياسة هي ((مجموع الجهود المبذولة من أجل المشاركة في السلطة
أو من أجل التأثير على توزيع السلطة)).
لكن
هل استخدام العنف حق مشروع لكل أشكال الدولة بما فيها الدولة الاستبدادية أم هو حق
فقط للدولة القائمة على أساس ديموقراطي حديث؟
الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إن عنف الدولة لا
يكون مشروعا إلا عندما تكون هذه الدولة قائمة على أساس مشروع أي على التمثيلية،
الإنتخابات، الحريات العامة، التعدديةالسياسية، و تداول السلط، و فصل السلطة. لكن
يفترض هنا ان العنف هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على العنف أي مواجهة القوة بالقوة.
و ضد هذه الفكرة يطرح غاندي ((المفكر)) و الزعيم الهندي الشهير أن العنف رذيلة، و
إذا كان العنف قانونا حيوانيا، فإن اللاعنف هو القانون الذي يحكم البشر. و يعرف
هذا الأخير على نحو ما يلي:((الغياب التام للإرادة السيئة تجاه كل ما يحيى))
إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا، << هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيى>>
الصداقة ستكون حلا لمشكلة العنف، إذا أصبحت عامة بين الأفراد و الأمم. و ذلك ليس
فيه تخلّ عن الصراع الإنساني، بل على العكس من ذلك فاللاعنف مناهض للشر لكن بوسائل
الخير. إن القوة الحقيقية بهذا المعنى هي قوة الروح التي تستطيع أن تنجح في جعل
اللاعنف ينتصر على العنف و السلام على الحرب و القوة الروحية على القوة الفزيائية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire